|
أيادي أورهان باموك الحساسة
بقلم: مايك مويسر
ترجمة: جواد الساعدي
الكتابة صنعة يجيدها أورهان
باموك من بين قلة آخرين. في تركيا يتمنى البعض أن لايروا
كاتباً محرجاً كهذا، لذلك يريدون تقييد يديه. *****
أصابعه الناعمة تلامس القماش برقة بينما راحات يديه
تنزلق بحركة هادئة صعوداً ونزولاً على المقعد الوثير
الأسود كأنها تبعث بإشارة لتقول: "طيب، كان رائعاً أن نكون
معكم، ولكن حان وقت الذهاب الآن" حركة يديه لاتعطي إنطباعا
على الغطرسة أبداً، بل توحي بالودية والتواضع، هكذا مثل
صاحبها أورهان باموك الذي جرى توديعه في ذلك المساء، بعد
حلقة نقاش، تحت تصفيق جمهور من 500 شخص في المسرح
الكولوني. يداه تنهضانه من المقعد لتودع بمصافحة رقيقة،
هادئة، بقية المشاركين معه في الحلقة: مترجم رواياته،
ناشرها، ثم مدير الحلقة. اليدان تلوحان مرة آخرى للجمهور
ثم يختفي باموك خلف المسرح.
تمازج ثقافي
تركي-ألماني
قبل أيام عدة كانت البطاقات نفذت وجرى
حجز مقاعد المسرح الكولوني كلها، سعيد الحظ من ظفر هذا
المساء ببطاقة من البطاقات التي تخلف أصحابها عن الحضور.
قبل ساعة ونصف من حفل التوديع بدأ خليط من الأصوات التركية
والألمانية، منفعل بسرور، يضج، من مدخل المبنى حتى قاعة
المسرح في الطابق العلوي مروراً بالسلالم. الجمهور يعكس
التمازج الثقافي الذي يعمل من أجله أورهان باموك: أكراد من
تركيا، جمهور غربي مميز من المهتمين بالأدب والفن، فتيات
تركيات محجبات، شباب ألمان يرتدون ملابس من الطراز الحديث
ورجال ببدلات رسمية مع هواتفهم المنقولة.
بعد يوم
واحد من مراسيم منحه جائزة السلام للناشرين الألمان في
كنيسة القديس باول في فرانكفورت إعتلى الروائي التركي خشبة
المسرح. وبينما هو يتجه بهدوء، ولكن بثقة، نحو المقاعد
الوثيرة الأربعة التي وضعت في الوسط، كانت يده اليمنى تحيي
الجمهور واليسرى تحمل الصياغة التركية لرواية "الثلج"
بين التقاليد والمعاصرة
"الثلج" هي روايته
السياسية الأولى، بيد حساسة وصف فيها تشتت وإنقسام تركيا
بين التقاليد والمعاصرة، بين حضارتين، بين ديانتين، وبين
الشرق والغرب: "أتركو التقليد والمعاصرة يتشابكان،
أتركوهما إلى جانب بعضهما ولاتنظروا إلى ذلك نظرة الخائف،
لاتصدقوا السياسيين الذين يزعمون أن تركيا لاتعيش إلا على
مصدر واحد. التقاليد الأسلامية لاتشكل عائقاً أمام بناء
مجتمع حديث، ولا حتى أمام مجتمع علماني" لقد سمع
الجمهور هذه الجمل الحكيمة وهو يرى الآن أمامه باموك يسير
متئد الخطى في المشهد الأدبي التركي والمشهد الأدبي
العالمي رافعا يديه،مشيراً للتقليد باليسار و للمعاصرة
باليمين. ومن هنا يريد منتقدوه من عسكر وقوميين محافظين
ورجال قانون يمينيين أن يخطفوا منه كل شيء وأن يضعوا يديه
الكاتبتين بجد في الأصفاد. في كانون الأول 2005 سيمثل
أورهان بوماك أمام المحكمة في إسطنبول. ثلاث سنوات سجن كان
المدعي العام قد طلب له عقوبة بتهمة تحقير "الهوية
التركية" مؤخراً قدمت رابطة رجال قانون يمينيين دعوى
أخرى ضده: باموك، وفي مقابلة مع صحيفة ألمانية، أهان
المؤسسة العسكرية. ومع منحه الجائزة في فرانكفورت سوف
لا يصبح الأمر في تركيا سهلاً على هذا الكاتب، الوطني الذي
يبدي رأيه بصراحة. لذلك فإنه لامسوغ للمجتمع الدولي أن يقف
أزاءه مكتوف اليدين. إنه يحتاج إلى التضامن والمساندة كما
جرى معه في فرانكفورت.
باموك وصل إلى مقعده. جلس
ووضع رجله اليسار فوق رجله اليمين ثم ألقى عليها كتابه.
على مدى ساعة ونصف لم يغير وضع رجليه هذا. ظهره مسنود إلى
الوراء، يده اليمنى تلعب بالقلم، بينما بدا مرفقاه وكأنهما
مثبتان على المسندين ولم ينفكا عنهما في ذلك المساء سوى
مرتين فقط.
سيكون منظراً جامداً: كاتب ومقعد أثير،
لو لم تكن يدا باموك حاضرة، فبينما هو يصغي تقوم أصابعه
الرقيقة بألعاب بهلوانية بالقلم، وحتى عندما يتحدث يبقى
مسترخياً وغارقاً في مقعده، لكن يديه تبدآن بالرقص، تومآن،
ترسمان في الهواء، دون أن يتحرك الذراعان. باموك يرسل
أفكاره دون عناء، مثلاً عن موت الرواية السياسية في تركيا
في الثمانينات يقول: "ليس لأن جدار برلين قد سقط وإن
الأتحاد السوفيتي لم يعد موجوداً وإن المثالية السياسية قد
غابت، بل لأن السلوك الذي كان يسلكه كاتب يرى نفسه فوق
الجميع ويعطي لنفسه الحق بأن يتحدث من برجه العاجي عن جميع
الناس بتكبر، هذا السلوك قد مات، التجاسر والأدعاء قد
ماتا" هنا يستجمع باموك يديه، لا ليجعل منهما قبضة، بل
بدا وكأنه يزن فيهما مقولته ليدقق مرة أخرى في مدى
أهميتها. يدا باموك يدا أديب، يدان لرجل يجلس طوال
النهار تقريباً خلف طاولته ليكتب. خبير صنعة يتناول بيدين
هادئتين كل المواضيع الحساسة في تركيا، ليجعل بلاده
معاصرة، ولذلك فإنه يطرق أبواب أوروبا بقوة، لأنه يأمل بأن
الضغط من الخارج يغير أكثر. المشكلة الكردية وإبادة
الأرمن، موضوعان تحسسهما وتلمسهما بعناية لكي يفهمهما
ويستوعبهما، فأصبح يقبض عليهما ويجبلهما في يديه ليعيد
صياغتهما ويصقلهما في نص أدبي صادق و مفعم بالحب.
"لماذا أكتب رواياتي؟ لكي أكتشف كم هي غريبة ورائعة
ومميزة حياة كل واحد منا. وحيث إنها قصيرة جداً وجميلة جدا
وإن على الأنسان أن يقبل عليها باهتمام كبير، فإن الأدب
ليس شيئاً آخر غير ذلك"
ومهمة أورهان بوماك ليس
شيئاً آخر سوى تلك المهمة التي من أجلها إمتلك يدين
مميزتين جدا.ً
عن"دويتشة فيللة"
|